الواجب الأخلاقي عند كانط


بصدد الواجب الأخلاقي عند كانط
إن كانط هو صاحب نص مؤسس في مجال الأخلاق والواجب الأخلاقي. كيف لا وهو صاحب كتابين أساسيين في هذا المجال؛ “أسس ميتافيزيقا الأخلاق” و”نقد ملكة الحكم” ؟ ولذلك نجد كل الكتب المدرسية تدرج موقف كانط في المحور الأول من درس الواجب؛ “الواجب والإكراه”.
وغرضنا من هذه المشاركة هو توضيح موقف كانط من الإشكال الخاص بهذا المحور، والذي يثير مشكل الواجب بين الإكراه والحرية، بين الإلزام والالتزام.
فمن المعروف أن الإنسان كائن أخلاقي، فهو بخلاف الحيوانات وأشياء الطبيعة يشرع لنفسه قوانينا ومبادئا ينظم بها سلوكه وعلاقته مع الآخرين، وهذه القوانين هي التي تحدد للفرد مجموعة من الواجبات تجاه نفسه ومجتمعه والإنسانية جمعاء. ولهذا إذا كانت الحيوانات والأشياء الأخرى خاضعة لمملكة الضرورة التي تحكمها قوانين طبيعية وحتمية، فإنه يبدو أن فكرة الواجب الأخلاقي تفترض بالضرورة حرية الإنسان؛ أي أنه إذا لم يكن الإنسان حرا فلا معنى للحديث عن الواجب في حياته؛ فأشياء الطبيعة ليست حرة، فهي مقيدة بضرورات غريزية وطبيعية ولذلك فلا مجال للحديث بصددها عن أية واجبات أخلاقية أو غيرها.
فإذا كان الواجب يفترض الحرية بالضرورة، فهل هذه الحرية مطلقة أم نسبية ؟ وهل قيامنا بواجباتنا تعبير عن إرادتنا الحرة أم عن إكراه يسلط على هذه الإرادة؟ وما طبيعة هذا الإكراه وما هو مصدره؟ وهل يتعارض هذا الإكراه أو الإلزام الذي يسم الواجب مع مفهوم الحرية ؟ و ما هي خصائص الواجب ؟ وما هي غاياته ؟
سنحاول أن نقدم بشكل مختصر إجابة كانط عن كل هذه التساؤلات المكونة لهذا الإشكال الذي يؤطر المحور الأول من درس الواجب.
يعتبر كانط الإنسان شخصا وذات لعقل أخلاقي عملي. ولذلك فقيمته وسموه ترتبط بالتصرف وفقا للواجبات التي يسنها عقله الأخلاقي العملي. فالأخلاق في نظر كانط هي التي تجعلنا نسمو على الطبيعة، ونوجد في مرتبة أعلى من كل الموجودات الطبيعية . فالإنسان يوجد في مرتبة وسطى بين الحيوان والإله؛ فالأول خاضع لمحددات بيولوجية وطبيعية أما الثاني فهو يتصرف بحرية مطلقة وبمشيئة لا حدود لها، في حين نجد إرادة الإنسان تتأرجح بين عقله وميولاته، بين التزامه بما يشرعه عقله من واجبات وبين ما تمليه عليه غرائزه الحسية. فهل تكمن حرية الإنسان إذن في خضوعه لعقله أم في خضوعه لميولاته الغريزية ؟
إن أسمى ما يتميز به الإنسان هو عقله، لا سيما عقله الأخلاقي، ولذلك يبدو أن حريته تكمن في تصرفه وفقا للأوامر والواجبات الأخلاقية، والانصياع لهذه الأوامر لا يتنافى مع القول بحرية الإنسان. إن الواجب إذن هو الذي يجعل الإنسان يعيش في مملكة الحرية، في حين يظل الحيوان سجينا في مملكة الضرورة والحتمية. وإذا كان الإنسان جسم وروح، فإن الإرادة لديه قد تقع تحت سيطرة ميولاته الحسية و الغريزية، ولذلك فهي لن تصبح “إرادة خيرة” إلا إذا خضعت للأوامر القطعية الصادرة عن العقل الأخلاقي. والإرادة الخيرة هي التي تجعل سلوك الإنسان خيرا في ذاته، إذ تكون غايته هي الامتثال للواجب في ذاته وليس تحقيق أية نتائج أو منافع أخرى.
هكذا فالواجب عند كانط يكون صادرا عن العقل وليس عن العاطفة أو الإحساس، كما أنه يتسم بطابع “موضوعي” مادام لا يستهدف أية غايات ذاتية. فالإنسان الذي لا ينتحر لأن لديه ميلا إلى البقاء وحب الحياة لا يكون سلوكه أخلاقيا، في حين أن الذي يمتنع عن الانتحار امتثالا للواجب هو وحده من يتصف سلوكه بصفة الأخلاقية. كما أن الذي يقول الصدق لكي يكسب ثقة الناس أو يحقق مصالح ذاتية معينة لا يكون سلوكه أخلاقيا، في حين يتخذ سلوك الفرد الصبغة الأخلاقية حينما يكون نابعا من العقل وامتثالا للواجب في حد ذاته.
هكذا فالواجب الأخلاقي هو قانون أخلاقي صادر عن العقل. ويتميز بمجموعة من الخصائص من أهمها أنه ذو طابع صوري؛ إذ أنه لا يستهدف تحقيق أية مآرب أو منافع أو رغبات خاصة، كما أنه ذو طابع عقلي؛ إذ لا يصدر عن أية تجربة أو وقائع خارجية، ولهذا فهو نابع من داخل الذات وليس من خارجها. كما يتصف الواجب بخاصية الكونية؛ إذ أنه مطلق وغير مشروط بأية ظروف اجتماعية أو تاريخية. فضلا عن هذا فهو غاية في ذاته ومنزه عن أية أغراض أو منافع ذاتية. ولهذا السبب يرى كانط أن التزامنا بالواجب يعني أن يكون هدف فعلنا هو احترام القانون الأخلاقي الصادر عن العقل.
ويتحدث كانط في هذا الصدد عن نوعين من الأوامر:
- أوامر شرطية مقيدة: وهي التي يكون فعل الواجب فيها مرتبطا بتحقيق غاية ما؛ كأن أقول الصدق لكي أكسب ثقة الناس أو أساعد المحتاجين لكي أربح في الانتخابات أو أقوم بالخير لكي أكون سعيدا…الخ. وفي كل هذه الحالات فالسلوك لا يكتسي صبغة أخلاقية، لأن الغاية منه ليست هي الامتثال للواجب في ذاته بل الرغبة في بلوغ غايات أخرى.
- أوامر قطعية مطلقة: وهي تلك الواجبات التي تتسم بالضرورة و تكون غاية في ذاتها، أي أن هدف السلوك هنا يكون هو إرضاء العقل والقيام بالواجب في ذاته؛ كأن أقول الصدق من أجل أنه صدق ومن أجل أنه واجب أخلاقي مطلق.
إن كانط يصبغ صفة القدسية على العقل الأخلاقي ويجعله فوق كل اعتبار، ولذلك فهو يرى مثلا أن من يكذب على شخص واحد فكأنه يكذب على الناس جميعا، بكل بساطة لأنه يجرد منبع الحق من صفته المقدسة. ونحن نعلم أن منبع الحق والواجب عند كانط هو العقل الأخلاقي كعقل كوني ومطلق.
وفي هذا السياق يتحدث كانط عن أوامر أخلاقية مطلقة ثلاث:
- الأمر الأول يعبر عنه كانط كما يلي: « اعمل دائما بحيث يكون في استطاعتك أن تجعل من قاعدة فعلك قانونا كليا للطبيعة». وهذا يعني أن سلوك الفرد لا يكون أخلاقيا إلا إذا كان قابلا للتعميم دون أن تترتب عليه أية نتائج سلبية. فكانط يدعو الفرد هنا لكي يجعل سلوكه بمثابة قانون للناس جميعا، ولن يكون الأمر كذلك إلا إذا كان هذا السلوك صادرا عن العقل ومعبرا عن الواجب. فإذا كنت سأسرق مثلا، علي أن أتخيل أن سلوك السرقة سيصبح قانونا عاما وسيمارسه كل الناس، والنتيجة بطبيعة الحال ستكون وخيمة وستجلب الضرر للجميع، ولذلك يعتبر سلوك السرقة سلوكا غير أخلاقي ولا يتماشى مع الواجب. أما إذا قلت الصدق، واتخذ سلوكي قانونا عاما بحيث أصبح كل الناس صادقين، فإن النتائج ستكون مرضية وسيعود النفع على الجميع، وبالتالي يكون قول الصدق في هذه الحالة واجبا أخلاقيا. ولهذا فبالرغم من أن كانط يستبعد أن تكون المنفعة هي الغاية من فعل الواجب، فإن فعل هذا الواجب لذاته لا ينفي حصول المنفعة، بل إنه لا يمكن تصور أن الغاية من الواجب هي الضرر، وإن حصل أن جنى الإنسان من جراء امتثاله للواجب ضررا، فإنه يكون ضررا مؤقتا لن يلبث أن يزول أو تترتب عنه منافع غير متوقعة بالنسبة لصاحبه أو للآخرين.
- الأمر الثاني يقول: « اعمل دائما بحيث يكون تعامل الإنسانية في شخصك وفي أشخاص الآخرين كغاية، لا كمجرد وسيلة ». ويدل هذا الأمر الأخلاقي الثاني على أن الغاية من فعل الواجب عند كانط هو إرضاء العقل لا غير. فالإنسانية هي الغاية هنا، وما يمثل الإنسانية هو العقل الأخلاقي كعقل كوني يستهدف مصلحة الجميع وليس مصلحة فرد أو جماعة دون أخرى. كما يبدو أن الثبات والكونية هما صفتان يتسم بهما الواجب.
- أما الأمر الثالث فيقول فيه كانط: « اعمل بحيث تكون إرادتك –باعتبارك كائنا ناطقا- هي الإرادة المشرعة الكلية …». ويشير هذا الأمر الثالث إلى أن الواجب الأخلاقي يكون صادرا عن إرادة الإنسانية ذاتها؛ بحيث يشرع الإنسان لنفسه واجبات وأوامر ويلزم بها نفسه، وهذا يعبر عن حرية الذات وليس عن خضوعها. وحتى ولو كانت الإرادة تخضع للقانون الأخلاقي أو الواجب، فهي في الحقيقة لا تخضع سوى لذاتها وما تشرعه لنفسها. فالدافع للقيام بالواجب هنا ليس خارجيا، وليس فيه إكراه من الخارج، بل هو داخلي ونابع من باطن الذات، أي من إرادتها العاقلة والخيرة.
هكذا فالعقل لا يفرض قوانينه وواجباته على الإرادة، كما تؤثر الأجسام الطبيعية على بعضها البعض وفقا لحتمية ضرورية وطبيعية، بل إن العقل يمارس إلزاما على الإرادة انطلاقا من “ضرورة أخلاقية” لا “ضرورة طبيعية”. فالأخلاقية الكانطية هي تعبير عن انتصار الإرادة على الطبيعة، والعقل على الميولات الغريزية،كما تعبر هذه الأخلاقية عن إلزام تمارسه الذات على ذاتها، مما يجعله إلزاما حرا تكون الذات الملزمة (بكسر الزاي) فيه هي نفسها الذات الملزمة (بنصب الزاي)، وهذا لا يتعارض مع الحرية.
دمتم محبين للحكمة وعشاقا للحقيقة