في إثبات وجود الجسم وعلاقته بالنفس عند ديكارت

في إثبات وجود الجسم وعلاقته بالنفس عند ديكارت
لقد شك ديكارت في كل شيء، إلا في كونه يشك. وقد قدم ثلاثة مبررات رئيسية لداعي الشك هذا، تتمثل في خداع الحواس واختلاط الحلم باليقظة وفرضية الإله الماكر. وبعد أن تبين لديكارت انه، بالرغم من شكه في المحسوسات والمعقولات وفي كل شيء عموما، لا يمكنه أن يشك في انه يشك. وبالتالي ففعل الشك هذا هو أول حقيقة أثبتها ديكارت ! وما الشك في حقيقته ؟ هل يمكن للحيوان أو الشجرة أو أي شيء من أشياء الطبيعة أن يشك ؟! بالطبع لا، إذن فالشك يتعلق بالعقل الذي يتميز به الإنسان عن سائر الحيوان وأشياء الطبيعة، وهذا يعني أنه فعل عقلي أو أنه نوع من التفكير مثله مثل الفهم والتصور والإثبات والنفي …الخ. وهذا ما جعل ديكارت يقول: أنا أشك، أنا أفكر. فمن البديهي، ومما يدرك حدسا ولا يحتاج إلى براهين واستدلالات عقلية، أن من يشك فهو يفكر. ومن البديهي، بنفس الدرجة أيضا، أن من يفكر فهو موجود. ولذلك، صاغ ديكارت أول حقيقية حدسية وبديهية بالنسبة إليه؛ هي ما أصبح يعرف بالكوجيطو الديكارتي: أنا أفكر، أنا موجود. Cogito ergo sumباللاتينية.
وبعد عملية الشك هذه، تساءل ديكارت: من أنا على وجه التدقيق ؟ وأجاب، بعد سيرورة الشك المنهجي تلك: أنا شيء مفكر؛ أنا شيء يشك ويفهم ويتصور ويثبت وينفي …وكل هذه الأفعال العقلية/التفكيرية هي جزء من أناي ولا يمكنها أن تنفك عني. إنني، يقول ديكارت: نفس أو عقل أو ذهن أو روح.
ولهذا، فحينما أثبت ديكارت وجوده في البداية، بعد تجربة الشك، فهو أثبت وجوده كفكر أو كأنا مفكر وليس كجسم. ولهذا قال ديكارت: أنا أفكر، أنا موجود؛ أنا موجود مادمت أفكر، فإذا انقطعت عن التفكير انقطعت عن الوجود. وأضاف ديكارت: إنني موجود حتى في حالة النوم !! وحتى في حالة افتراض أن الإله يبذل كل ما في جهده لإضلالي !! بل إنني موجود –يقول ديكارت- حتى ولو افترضت أنه لا سماء ولا أرض ولا غير ولا إله…هناك !!
إذن حينما أثبت ديكارت وجوده في بداية رحلة الشك، فهو قد أثبت وجوده كفكر أو كنفس وليس كبدن أو جسم. وهو الأمر الذي يدل على إقصائه للجسد، ومنحه للفكر وللعقل الشرف والأولوية الأنطلوجية والمعرفية معا. فأما الأولوية الأنطلوجية للنفس على الجسد، فتتمثل في أن بإمكانها أن توجد وتمارس نشاطها بمعزل عن الجسد ودون حاجة إليه؛ فهي بهذا المعنى مستقلة عنه ولها وجود قائم بذاته يختلف في طبيعته عن الجسد. في حين تتمثل أولويتها المعرفية على الجسد في قدرتها على ممارسة أفعال التفكير وإنتاج المعرفة والحقيقة دونما حاجة إلى الجسم والحواس، بحيث اعتبر ديكارت هذه الأخيرة خادعة وليست مصدرا موثوقا لبلوغ الحقيقة ولإنتاج المعرفة الصحيحة،هذا الإنتاج الذي يتوقف فقط على الحدس العقلي من جهة، وعلى إتباع القواعد المنهجية للعقل من جهة أخرى.
انطلاقا من كل هذا، ميز ديكارت بين النفس والجسد كجوهرين مختلفين ومتمايزين من حيث الطبيعة؛ فالنفس ذات طبيعة فكرية وعقلية، إذ أن التفكير هو طبيعتها وخاصيتها الجوهرية، أما الجسد فهو –شأنه شأن باقي الأجساد الأخرى- ذو طبيعة ممتدة، إذ أن الامتداد القابل للقسمة والقياس هو طبيعته.
إذن، فالنفس عند ديكارت هي جوهر قائم بذاته، له وجود مستقل عن الجسد، وبإمكاننا أن نتصور وجودها حتى في غياب الجسد. غير أنه بالرغم من هذا، فقد عمل ديكارت في آخر كتاب التأملات – في التأمل السادس- على إثبات وجود الأجسام، ومن بينها طبعا جسم الإنسان، وذلك من خلال الإجابة عن سؤال أساسي هو: هل الأشياء المادية موجودة وجودا واقعيا ؟
وقد لجأ ديكارت إلى إثبات وجود الأجسام من خلال تقديم حجتين رئيسيتين:
- الحجة الأولى تتمثل في تأمله في فعل “التخيل”؛ فهذا الفعل ليس ضروريا لماهية نفسي كذات مفكرة. وهو ما يعني أن فعل التخيل هذا يجد سببه خارجا عني، وبالضبط في عالم الأجسام. فهذه الأخيرة هي السبب الرئيسي في حدوث فعل التخيل داخل نفسي، وإذن ففعل التخيل يدل على وجود هذه الأجسام خارجا عني. ويبقى بالطبع أن وجود هذه الأجسام هو وجود احتمالي، وليس يقينيا كما هو الشأن بالنسبة لوجود الأنا المفكر. لماذا هو مجرد وجود احتمالي ؟ لأنه ليس نتيجة لحدس عقلي مباشر، بل فقط هو نتيجة فعل استدلالي؛ فأنا أستدل من فعل التخيل أن الأجسام موجودة، غير أنني لست متيقنا من وجودها بنفس الدرجة التي أنا متيقن بها من وجود ذاتي كأنا مفكر.
- أما الحجة الثانية، فقد اعتمد فيها ديكارت على قوة الإحساس أو الانفعال؛ فهده القوة ليست جزءا من ذاتي وليست ضرورية لها، وهذا يعني أنها جاءتني من الخارج. وقد يكون هذا الخارج إما جسما، وإما أن يكون إلها. لكن الله الخالق لوجودي قد أعطاني ميلا قويا إلى الاعتقاد بأن هذه القوة الحاسة صادرة من الأشياء الجسمانية. وإذن فهذه الأشياء موجودة في الواقع.
هكذا انتهى ديكارت إلى القول بأن الطبيعة التي منحني الله إياها هي التي ترشدني إلى المعرفة الصحيحة بالأشياء الجزئية والظاهرة، كحجم الشمس والضوء والصوت. وأول ما ترشدني الطبيعة إليه هو أن لي بدنا، وأني لست مقيما فيه كالنوتي في سفينته، بل إني متحد به اتحادا يجعلني وإياه شيئا واحدا.
وتعلمني الطبيعة أيضا أن هناك أجساما كثيرة تحيط بجسمي، وأنها مغايرة لبعضها البعض، وأنها تؤثر في بشتى ألوان الراحة والتعب.
هكذا نجد ديكارت في آخر الكتاب يعيد الاعتبار إلى الحواس بعد أن شك فيها في بداية الكتاب؛ فهو يرى هنا أنه من المحقق فيما يتعلق بمصلحة البدن أو مضرته، أن الحواس ترشدني إلى الصواب أكثر مما توقعني في الخطأ. كما أنه متى كانت حواسي المختلفة على اتفاق فيما بينها، وكانت جميعها على اتفاق مع ذاكرتي ومع إدراكي، ففي مقدوري أن أحكم على أشياء الوجود حكما يقينيا. وليس من سبيل إلى أن أخطئ في هذا الحكم، فما كان الله مضلا.
هكذا يتبين أن ديكارت أعاد الاعتبار في الأخير إلى الأجسام التي شك فيها في البداية، كما ارتكز على فكرة الله باعتباره ضامن لكل حقيقة ممكنة؛ إذ لو افترضنا أن الله مضل –وهذا لا يجوز- لما كان باستطاعتنا أن نكون متأكدين من أية حقيقة.
وإذا كان ديكارت قد ميز بين النفس والجسم، باعتبارهما من طبيعتين مختلفتين، فهو مع ذلك اعتبر أن النفس متحدة بالجسد ومقيمة فيه، ليس كما يقيم الربان في سفينته إذ يمكنه أن يغادرها ويعود إليها كما شاء، بل مقيمة فيه بشكل متحد وكأنهما شيء واحد دون أن يكونا شيئا واحدا بالفعل. وهذا يعني أن النفس مختلفة فعلا من حيث طبيعتها عن الجسد؛ إذ أنها من طبيعة فكرية والجسد من طبيعة حسية، إلا أنه مع ذلك يبدو أن ديكارت في آخر التأملات يثبت اتحاد النفس بالجسد وارتباطها به، بشكل أو بآخر، بحيث يصعب تصورها بدونه !! وقد لجأ ديكارت إلى إثبات مثل هذا الاتحاد باعتماد حجة تبدو واهية وقابلة للنقد، وهي القول بأن الطبيعة التي منحني الله إياها هي التي ترشدني أن لي بدنا، وأني لست مقيما فيه كالنوتي في سفينته، بل إني متحد به اتحادا يجعلني وإياه شيئا واحدا.
وتعلمني الطبيعة أيضا أن هناك أجساما كثيرة تحيط بجسمي، وأنها تؤثر في بشتى ألوان التأثير.
لكن السؤال الذي يمكن أن يطرح على ديكارت هو: هل يكفي الاستناد إلى الطبيعة التي منحني الله لإثبات وجود الأجسام، ولإثبات اتحاد النفس بالجسم ؟ وكيف يمكنهما أن يتحدا وهما أصلا من طبيعتين مختلفتين ؟
وهل من الضروري اللجوء في الأخير إلى فكرة الله والضمان الإلهي لإثبات وجود الأجسام ؟ بل ولإنقاذ الحقائق الرياضية ذاتها، إذ كيف سأكون متأكدا –يقول ديكارت- أن 2+2=4 وأنا أفترض أن الله مضل، وأنه قد يكون قد صنع عقلي على غير ما يرام ؟!!
تظل مثل هذه الأسئلة مفتوحة، من أجل التفكير فيها ومحاكمة الموقف الديكارتي من خلالها، وذلك بالكشف عن الصعوبات والإحراجات التي تطرحها.