إشكالية المعرفة في الفلسفة


إشكالية المعرفة في الفلسفة
عادة ما يميز مؤرخو الفلسفة والدارسون المهتمون بمجال التفكير الفلسفي بين ثلاثة مباحث كبرى شكلت مجال اهتمام الفلاسفة طيلة المسار التاريخي للإنتاج الفكري الفلسفي؛ وتتمثل في مبحث الوجود أو ما يسمى بالأنطلوجيا، ومبحث المعرفة الذي يمكن التمييز فيه بين نظرية المعرفة كفرع فلسفي يهتم بالمعرفة عموما، والإبستمولوجيا أو ما يسمى بفلسفة العلوم وهي التي تهتم بقضايا وإشكالات تتعلق بالمعرفة العلمية الدقيقة بوجه خاص، أما المبحث الثالث فيتمثل في مبحث القيم أو ما يسمى بالأكسيولوجيا، وهو الذي يهتم بثلاث قيم عليا رئيسية هي: الحق والخير والجمال.
هكذا يتبين أن الإشكالات المرتبطة بالمعرفة هي من صلب اهتمام الفيلسوف، وتشكل بجانب الإشكالات الأنطلوجية الميتافيزيقية والإشكالات الأكسيولوجية القيمية الأرضية الفكرية الأساسية التي انصبت عليها معاول التفكير الفلسفي، وفلحت تربتها أسئلته الباحثة عن جذور الأفكار والمقلبة لأوجهها المتعددة في أفق الكشف عن درجات الصحة أو اليقين التي تمثلها.
وإذا كان الإنسان كائنا عاقلا، وكان عقله قد مكنه من القدرة على إنتاج مجموعة من الأفكار والمعارف، فإن العقل الفلسفي قد اهتم بهذه القدرة بالذات التي يتميز بها الكائن البشري عن عموم الموجودات الطبيعية الأخرى، وطرح حولها العديد من الأسئلة التي تكون في ترابطها وتداخلها الإشكالية المعرفية التي نحن بصدد تناولها والبحث فيها.
ومن أهم تلك الأسئلة التي تؤثث الفضاء الإشكالي المتعلق بمجال المعرفة، نذكر تلك المتعلقة بإمكان المعرفة ومصدرها وحدودها ووظيفتها. وقد تميز تاريخ الفلسفة بظهور عدة مذاهب واتجاهات جسدت مواقف متعددة، وقدمت إجابات مختلفة - متشابهة أحيانا ومتعارضة أحايين أخرى – بصدد تلك الإشكالات المعرفية. وسنركز في مقالتنا هذه على إشكالين معرفيين رئيسيين، أحدهما يخص إمكان المعرفة بينما يخص الآخر حدودها، مثيرين أثناء ذلك تساؤلات تتعلق أيضا بمصدر المعرفة وطبيعتها ومنهجه بلوغها، نظرا لما يوجد من تداخل بين كل هذه الإشكالات التي تطرح حول مسألة المعرفة في حقل التفكير الفلسفي.
1- إمكانية المعرفة:
يمكن التعبير عن الإشكالية المتعلقة بإمكان المعرفة من خلال التساؤلات التالية: هل المعرفة ممكنة ؟ وهل بإمكان العقل إنتاج معرفة حقيقية بالإنسان وبالطبيعة وما وراء الطبيعة ؟ وما هي الأسباب أو المحددات التي تجعل هذه المعرفة ممكنة أو غير ممكنة ؟
في إطار معالجة هذه الإشكالية، يمكن التمييز بين فريقين متعارضين؛ أحدهما يشكك في إمكانية وجود الحقيقة ويقر بعجز العقل وعدم قدرته على بلوغ أية معرفة صحيحة بالأشياء والظواهر، ويمثل هذا الموقف الفلاسفة الشكاك أو أصحاب الشك المذهبي الذين اتخذوا الشك عقيدة لهم في الحياة، بحيث أنكروا جميع الحقائق ولم يستطيعوا الخروج من دائرة الشك. أما الفريق الآخر فيمثله الفلاسفة الاعتقاديون أو الوثوقيون الذين يثقون في قدرة العقل على بلوغ الحقيقة واليقين، ويقولون بالتالي بإمكانية بلوغ الحقيقة ويعترفون للعقل قدرته على بلوغ المعرفة المتعلقة بالظواهر سواء كانت طبيعية أم إنسانية.
1-1: الشكاك:
إذا كنا نميز في مجال التفكير الفلسفي بين نوعين من الشك: الشك المنهجي والشك المذهبي، فإن حديثنا عن الشكاك هنا يتعلق بحديث عن هؤلاء الذين يتبنون الشك المذهبي، وليس هؤلاء الذين يعتمدون الشك المنهجي من أجل بلوغ الحقيقة واليقين. هكذا إذا كان أصحاب الشك المذهبي يتخذون الشك كغاية وهدف نهائي، فإن أصحاب الشك المنهجي – كما هو الحال بالنسبة لديكارت مثلا – يعتبرون الشك مجرد وسيلة للوصول إلى الحقيقة. وبالتالي فأصحاب الشك المذهبي منكرون للحقيقة بينما أصحاب الشك المنهجي مقرون بوجودها، فالفريق الأول يمثله الفلاسفة الشكاك، بينما يمثل الفريق الثاني الفلاسفة الوثوقيون. ولهذا السبب سيهمنا هنا عرض موقف فلاسفة الشك المذهبي باعتبارهم شكاكا راديكاليين، بينما سنعتبر فلاسفة الشك المنهجي وثوقيين واعتقاديين، وسنرجئ الحديث عنهم إلى الفقرة الموالية.
إن الفلاسفة الشكاك، أصحاب الشك المذهبي، ينكرون بشكل قاطع ونهائي أية إمكانية للعقل على بلوغ المعرفة، بحيث يعلقون الأحكام ويمتنعون عن إصدارها ما داموا يبتدئون بالشك وينتهون إليه. وقد ظهرت الإرهاصات الأولى لمثل هذا الشك المذهبي في الفلسفة اليونانية مع الفلاسفة السوفسطائيين، الذين يعتبر جورجياس (480-375م) وبروتاغوراس (480-410م) على رأسهم، وتطور فيما بعد مع الفلاسفة الشكاك أمثال “بيرون” و”سكتوس أمريكوس”.
هكذا اعتبر بروتاغوراس أن ” الإنسان مقياس كل شيء”، وأن الحقيقة نسبية تختلف من فرد لآخر ومن مجتمع لآخر، وتتعدد المنظورات والرؤى المتعلقة بها بحسب تعدد المصالح والمنافع. وفي نفس السياق اعتبر جورجياس أن الإنسان غير قادر على إدراك الحقيقة، وحتى ولم تم له إدراكها فهو لا يستطيع تبليغها للغير؛ فاللغة قاصرة عن التعبير عن الحقيقة كما يتمثلها الشخص ذاتيا، كما انه يتعذر تحقيق معرفة موضوعية ومطلقة عن الأشياء في معزل عن الذات العارفة. فكل إنسان ينظر إلى الأشياء والقضايا بحسب منظوره الذاتي الخالص.
وقد عرف الفلاسفة السوفسطائيون بكونهم معلمين للبلاغة، وممتلكين لقدرة هائلة على التلاعب بالألفاظ من اجل البرهنة على الفكرة ونقيضها في نفس الآن. لقد كان همهم الرئيسي هو الحصول على المال وتحقيق المآرب الشخصية.
أما عن الشكاك، أصحاب الشك المطلق، فقد أنكروا الحقيقة نهائيا وبشكل قاطع، لأن كل قضية تحتمل الخطأ والصواب بنفس الدرجة، وهو ما يتوجب معه في نظرهم الامتناع عن أي حكم سواء بالسلب أو بالإيجاب. فجسدوا بذلك موقفا لا أدريا جعل البعض ينعتهم بالفلاسفة اللاأدريين. وقد حاولوا إعطاء مجموعة من الحجج للدفاع عن نزعتهم الشكية المذهبية هاته، من أهمها قولهم بالدور الفاسد الذي مفاده أن كل برهان نقدمه حول قضية ما يحتاج هو أيضا إلى برهان آخر، وهكذا إلى ما لا نهاية. كما قالوا بخداع الحواس والعقل معا؛ فنحن نرى السراب ماء في حين أنه ليس كذلك، كما أن ما يبدو لعقلي انه خير أو نافع لا يكون بالضرورة خيرا ونافعا لشخص آخر. كما قالوا بأننا لا نستطيع البرهنة على صحة العقل، في الوقت الذي نعتمد عليه في استدلالاتنا، وهذا ما يجعل أحكامنا متهافتة وغير متأكد منها.
لكن يظل على العموم مثل هذا الشك المذهبي المطلق شكا سلبيا، لا يساهم في تقدم المعرفة والدفع بمسارها نحو الأمام. ولذلك كان معظم الفلاسفة وثوقيين؛ وهم إن تبنوا الشك، فقد جعلوه فقط وسيلة أو أداة لبلوغ الحقيقة، وهم إن قالوا بنسبية الحقيقة، فإنهم مع ذلك لم ينكروها نكرانا تاما.
1-2: الوثوقيون:
إن ما يميز الفلاسفة الاعتقاديون أو الوثوقيون، هو إقرارهم بوجود حقيقة ما وسعيهم الدؤوب، وباستخدام شتى المناهج والوسائل، من أجل بلوغها. إنهم إذن يثقون في قدرة العقل على إدراك الحقيقة أو إنتاجها، لكنهم مع ذلك يتساءلون عن الوسائل الكفيلة بجعل الإنسان يصل إلى المعرفة؛ هل هو العقل أم التجربة أم الحدس ؟ كما يتساءلون عن حدود هذه المعرفة؛ هل هي معرفة مطلقة أم نسبية ؟
في هذا الإطار يمكن الاكتفاء بالإشارة إلى الفلاسفة العقليين والفلاسفة التجريبيين:
1-2-1: العقليون:
لقد اعتقد الفلاسفة العقليون عموما بقدرة العقل على إنتاج المعرفة اعتمادا على إمكانياته الذاتية لوحدها ودونما حاجة إلى الاستعانة بالتجربة أو الحواس، وآمنوا باحتواء هذا العقل على مبادئ فطرية أو قبلية مطلقة وسابقة على التجربة، وهي أساس كل معارفنا اللاحقة.
وقد عبر أفلاطون عن هذا المنحى العقلي مند البدايات الأولى للفلسفة مع اليونان، حيث تحدث عن وجود عالمين؛ عالم المثل وهو عالم عقلي مفارق، إنه مستودع الحقائق المطلقة والخالدة والتي لا تدرك إلا عن طريق التأمل العقلي الفلسفي. أما العالم الثاني فهو العالم المادي الحسي الذي هو عالم الأشباح والظلال وأشباه الحقائق الفانية. وهكذا فإدراك الحقيقة يتطلب حسب أفلاطون تجاوز ما هو حسي وظاهري، وممارسة التأمل الفكري لإدراك الحقائق الموضوعية التي توجد في استقلال عن الذات العاقلة، في عالم سماه أفلاطون عالم المثل.
وقد وضع أرسطو بعد ذلك ثلاثة مبادئ عقلية منطقية اعتقد العقل الكلاسيكي بثباتها وإطلاقيتها وعدم قابليتها للشك والتغير، وهي كالتالي:
§ مبدأ الهوية: وهو يعني أن كل شيء هو مساو لنفسه في أية لحظة (أ=أ).
§ مبدأ عدم التناقض: يعني أن النقيضين لا يجتمعان في نفس الشيء، أي أن الشيء إما أن يكون”أ” أو “لاأ” ولا يمكن أن يكون معا.
§ مبدأ الثالث المرفوع: وهو يعني أن الشيء إما أن يكون “أ” أو “لاأ” ولا ثالث لهما، أي أن إمكانية الوسط تستبعد، لذلك يسمى أيضا بمبدأ الوسط المستبعد.
وقد أضاف الفيلسوف الألماني لايبنتس (Leibnitz) إلى هذه المبادئ الثلاثة الأرسطية مبدأ رابعا هو مبدأ السبب الكافي، وهو يعني أنه لا يمكن تصور حدوث واقعة ما دون وجود سبب يبرر لماذا هي موجودة على هذا النحو وليس على نحو آخر.
وقد تحدث ديكارت عن وجود أفكار ومبادئ فطرية في العقل، واعتبره ملكة فطرية وأنه موزع بين الناس بالتساوي بحيث ليس هناك شخص أوتي من العقل أكثر مما أوتي الآخرون. وهكذا سيعتبر ديكارت أن هناك معارف وأفكار ومبادئ فطرية توجد في العقل منذ البداية، وبالتالي فهي معارف ومبادئ تتميز بالبداهة والوضوح والإطلاق والكلية. وإذا كان العقل أعدل قسمة بين الناس فإنهم يختلفون فقط في طريقة استخدامه، لذلك فقد وضع ديكارت أربعة قواعد رئيسية لحسن استخدام العقل، وهي: البداهة، التحليل ، التركيب والمراجعة.
وفي نفس الإطار، يرى ديكارت أن العقل قادر على إنتاج الأفكار والمعارف انطلاقا من مبادئه الذاتية ودونما حاجة إلى أي مصدر خارجي. والعقل في نظره لا حدود له حيث بإمكانه أن يدرك كل الحقائق حتى الميتافيزيقية منها كوجود الله وخلود النفس وبداية العالم.
1-2-2: التجريبيون:
وإذا انتقلنا الآن إلى الفلاسفة التجريبيين، فإننا نجدهم يتفقون مع العقلانيين على إمكان بلوغ المعرفة إلا أنهم مع ذلك لا يعتقدون معهم بوجود أفكار فطرية، أو بالزعم على أن العقل قادر لوحده على إنتاج المعرفة دونما حاجة إلى التجربة والحواس.
· جون لوك:
وفي هذا السياق، رفض جون لوك قول ديكارت بوجود أفكار فطرية موجودة في العقل منذ الولادة، لأنه لو كان الأمر كذلك لكانت موجودة عند كل الناس حتى الأطفال والهمجيين منهم. وشبه لوك العقل بصفحة بيضاء والتجربة هي التي تخط عليها الأفكار والمعارف. كما ميز بين نوعين من الأفكار؛ أفكار بسيطة وهي التي تنفذ إلى الذهن عبر الحواس كالشكل أو الامتداد أو الحركة، وأفكار مركبة وهي تلك التي يحصل عليها العقل انطلاقا من تأليفه بين الأفكار البسيطة مثل الهوية أو العلية أو اللامتناهي. وفي جميع الأحوال، فالحواس هي مصدر كل ما يحصل عليه العقل من أفكار تأتيه عن طريق التجربة. وإذا كانت تجارب الناس مختلفة، فإن الأفكار والمعارف التي تحتوي عليها عقولهم ليست واحدة ومتساوية بين الجميع. وهكذا فالعقل في نظر لوك ليس فطريا بل هو مكتسب، إنه مركب ثقافي يختلف باختلاف تجارب الناس والمجتمعات. والعقل في نظره محدود، وحدوده هي حدود التجربة بحيث لا يمكن أن يدرك الحقائق الميتافيزيقية.
دفيد هيوم:
أما مواطن جون لوك الفيلسوف التجريبي الآخر دفيد هيوم، فقد قسم الإدراكات العقلية إلى قسمين:
أ- الانطباعات: وهي إدراكات أكثر وضوح وأقوى أكثر.
ب- الأفكار: وهي إدراكات أقل وضوح وأضعف أثر.
و سواء تعلق الأمر بالانطباعات أو الأفكار، فإن لهما نفس المصدر هو الخبرة الحسية، وما الاختلاف الموجود بينهما إلا في درجة الوضوح وقوة الأثر. وفي هذا السياق يقول هيوم: “وهكذا تكون كافة أفكارنا التي هي إدراكات خافتة، صورا تحاكي انطباعاتنا التي هي إدراكات ناصعة”.
هكذا فإذا شاءت الفكرة أن تكون صحيحة فإن عليها أن تقبل أن نعود بها إلى انطباعاتنا الحسية المباشرة، وما لم يقبل ذلك فهو من الأفكار التي لا يجب أن نركن إليها على أنها صواب.
ويقسم هيوم الأفكار إلى نوعين؛ بسيطة ومركبة. فأما البسيطة فهي تلك التي لا يمكن تحليلها، أما المركبة فهي ما يمكن تحليلها إلى عناصر جزئية أبسط منها. هكذا ففكرتي عن لون البرتقالة، أو طعمها، أو رائحتها مثلا، هو من الأفكار المباشرة الصادرة عن انطباعاتنا الحسية، وهذه الانطباعات الجزئية هي التي سيؤلف الذهن بينها فيما بعد ليكون فكرة البرتقالة كفكرة مركبة.
من هنا فالمبدأ الأساسي في فلسفة هيوم هو التالي: كل فكرة صحيحة ومشروعة لا بد أن تجد مصدرا لها في الخبرة المباشرة وإلا فهي زائفة.
يمكن أن نخلص إذن، إلى أنه إذا كان قلة من الفلاسفة ينكرون إمكانية بلوغ المعرفة الصحيحة نهائيا وبشكل مطلق، وهم الذين سموا بالشكاك، فإن عموم الفلاسفة آمنوا بقدرة العقل على إنتاج المعرفة، وإن كانوا اختلفوا طبعا حول طبيعة هذه المعرفة؛ فزعم بعضهم أن بإمكان العقل أن يدرك كل الحقائق حتى الميتافيزيقية منها، بينما أنكر آخرون على العقل أية قدرة على تجاوز عالم الحس والتجربة.
وهذا الأمر سيجعلنا ننتقل للنظر في إشكال معرفي آخر، هو الإشكال المتعلق بحدود المعرفة.
2- حدود المعرفة:
لقد أشرنا في معرض حديثنا عن الوقف التجريبي إلى أنه يجعل حدود المعرفة محصورة في نطاق ما هو حسي تجريبي. هكذا فقد عمل لوك وهيوم على تفنيد الموقف العقلاني القائل بوجود الأفكار الفطرية، واعتبروا أن الخبرة الحسية هي بداية أي بحث عن أية معرفة صحيحة وحقيقية.
1-2: دفيد هيوم:
· اللفظ الكلي “إنسان” :
انطلاقا من هذا المبدأ يتساءل هيوم عن مشروعية ما يسمى بالألفاظ الكلية المجردة، مثل لفظ “إنسان”. فإلى أي شيء أشير بالكلمة العامة المجردة “إنسان”؟
لقد انقسم الفلاسفة في الإجابة عن هذا السؤال إلى ثلاثة مذاهب رئيسية:
أ- الفلاسفة “الشيئيون” بزعامة أفلاطون:
وهم يرون أن لفظ “إنسان” يشير إلى “شيء” حقيقي قائم بذاته في عالم المثل؛ فهو فكرة عقلية مثالية ومجردة تعتبر النموذج الذي نسخ على منواله هؤلاء الأفراد الذين نراهم في هذه الدنيا.
ب- الفلاسفة “التصوريون” بزعامة أرسطو:
ويرى أصحاب هذا التصور أن اللفظ المجرد “إنسان” لا يشير إلى أي فرد من الأفراد الذين ندركهم في هذا العالم الحسي، كزيد وعمر وخالد، ولكنه يشير إلى تصور عقلي مجرد مستخلص من هؤلاء الأفراد عن طريق عمليتي التجريد والتعميم. فلفظ “إنسان” بهذا المعنى هو تصور عقلي مجرد يشير إلى كل أفراد بني الإنسان دون أن يقتصر على واحد منهم بعينه.
ج- الفلاسفة “الاسميون” وهيوم زعيم من زعمائهم:
يرى أصحاب هذا المذهب بأن المعرفة تستمد من هذا العالم التجريبي الحسي، وبأن معارفنا لا تأتي إلا فردية جزئية في أساسها. وعليه فكلمة “إنسان” لا تشير إلا إلى واحد من الأفراد الآدميين الذين أنطبع بهم، أتخذه ممثلا لسائر أشباهه؛ وبهذا يكون اللفظ الكلي “إنسان” هو كأي اسم آخر أسمي به هذا الفرد أو ذاك، ومن ثم سمي هذا الفريق “بالاسميين”.
هكذا نلاحظ أن الاسم الكلي عند هيوم هو اسم يشير إلى صورة ذهنية جزئية (أي “فكرة” باصطلاح هيوم) ناتجة عن مجموعة من الانطباعات الحسية، والانطباع في هذه الحالة لا يكون إلا لمؤثر جزئي بكامل فرديته لا تعميم فيه ولا تجريد.
من هنا فالفكرة الكلية المجردة، مثل فكرة “الإنسان”، هي فكرة منبثقة عن فرد بعينه ثم اختيرت لتمثل سائر الأفراد. وبالتالي فهذا التعميم الذي يطالها لا يضيف عناصر جديدة إلى طبيعتها.
فواضح إذن أن هيوم، وانطلاقا من نزعته التجريبية، يرجع أصل كل الأفكار، مهما بلغت من الإغراق في التجريد، إلى الخبرة الحسية، وما لا يرجع من الأفكار إليها فهي باطلة ولا أساس لها من الصحة.
· مبدأ الهوية:
وانطلاقا من مبدأ التشابه، يقدم دفيد هيوم تفسيرا حسيا لمبدأ الهوية أو الذاتية. فهذا المبدأ الأخير ناجم عن مجموعة من الانطباعات الحسية المتعددة والمتشابهة بحيث يدمج بينها الذهن فيعطي انطباعا على أن هذا الشيء الذي انطبعنا به لعدة مرات هو نفسه في كل مرة. ومثال ذلك أنه تحدث لنا مجموعة من الانطباعات المتتابعة في الزمن والشديدة التشابه فيما بينها عن شيء اسمه الشمس، فيعمل الخيال على دمجها وكأنها انطباع واحد يدل على شيء واحد، لكن في الحقيقة فتلك الانطباعات مستقلة عن بعضها البعض، والتشابه الشديد بينها هو الذي يجعلنا نتوهم أنها تدل على شيء واحد هو الشمس مثلا. وهذا التوحيد لما هو متعدد في الأصل هو الذي يتولد عنه ما يسمى بمبدأ الهوية.
فلمبدأ الهوية إذن أصل حسي عند هيوم، خلافا لما ذهب إليه أنصار النزعة العقلية من أنه مبدأ فطري ومتأصل في العقل. فهذا المبدأ يفترض عند هيوم انطباعين حسيين على الأقل، يتتابعان في الزمن وفي لحظتين مختلفتين، ونظرا لتشابههما أقول عن الانطباع الثاني بأنه هو هو بعينه الانطباع الأول، ولو أنهما في الحقيقة مختلفين، فينشأ في ذهني من جراء ذلك ما يسمى بمبدأ الهوية.
· مبدأ السببية:
ونفس الشيء يفعله هيوم بخصوص مبدأ السببية حيث يرفض الموقف العقلاني الذي يرى بأن مبدأ السببية مبدأ عقليا خالصا، وأنه موجود في العقل بشكل فطري، ويقول على العكس من ذلك، وتماشيا مع نزعته التجريبية، بأن مستمد من العادة والخبرة الحسية.
من هنا يرى هيوم أن العقل وحده لا يمكنه بدون خبرة حسية أن يقدم لنا أحكاما صحيحة عن الواقع.
يقول هيوم: ” إذا ما ارتبط شيئان ارتباطا لا تخلف فيه – كالحرارة واللهب مثلا، أو الثقل والصلابة – فإن العادة وحدها عندئذ تقتضينا أن نتوقع أحد الشيئين إذا ما ظهر الآخر”.
من هنا فالعادة عند هيوم، هي الأساس الذي يزودنا بالأفكار التي نكونها عن الوقائع والترابطات القائمة بينها. فأصل كل استدلالاتنا هي الخبرة الحسية والناتجة عن “العادة” وليس عن التدليل العقلي.
وفي هذا السياق يقول هيوم: ” العادة هي المرشد العظيم للحياة البشرية؛ فهذا المبدأ وحده (أي العادة) هو الذي يجعل خبرتنا ذات نفع لنا، ويتيح لنا أن نتوقع في المستقبل سلسلة من الحوادث الشبيهة بسلسلة الحوادث التي ظهرت فيما مضى”.
هكذا فنحن قد تعودنا مثلا، أن نرى الورق يحترق حينما نقربه من النار، فيسمح لنا هذا التعود أو العادة بأن نتوقع احتراقه مستقبلا حينما نقربه من النار. وهذا التوقع هو احتمالي عند هيوم؛ إذ ليس هناك ضرورة عقلية تقرر أنه لا بد أن يحترق الورق بالنار مستقبلا، فيمكن أن لا يحدث ذلك في المستقبل.
· فكرة النفس:
إن إثبات صدق أية قضية مرتبط بالضرورة بالخبرة الحسية الواقعية؛ فلا يجوز لأحد أن يتحدث عن كائن ما دون أن يستطيع إرجاع مسألة وجوده إلى الخبرة الحسية من بصر أو لمس أو سمع…الخ.
وإذا طبقنا هذا المبدأ العام على مفهوم النفس، فإننا نجد هيوم ينكر وجود النفس كجوهر قائم بذاته، ويرجعها إلى مجموعة من الانطباعات والأفكار التي تتوالى وتتتابع لتمنحنا فكرة وهمية عن شيء اسمه النفس. إن ما هنالك هو أننا ننطبع بإحساسات باطنية كالحب أو الغضب أو الكراهية، أو بإحساسات ظاهرية مثل البرودة والحرارة، وتكون هذه الإحساسات مرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر بأشياء واقعية، لكننا لا نحس “النفس” بشكل مباشر وكأنها شيء موجود وقائم الذات، سواء تعلق الأمر بالإحساس الظاهري أو الباطني.
إن الإنسان دوما في حالة إدراك حسي، سواء كان ظاهريا أو باطنيا، وهذا التتالي هو الذي يعطيه الانطباع بأن له نفس. ولذلك يربط هيوم بين الوعي والإدراك الحسي، ويرى أنه بتوقف الإنسان عن الإدراك، كما هو الشأن أثناء الموت، يتوقف الوعي لديه، ولا يعود إذاك إمكان للحديث عما يسمى بالنفس، لأن هذه الأخيرة لا تعدو أن تكون أفعالا للوعي متعددة ومتنوعي تنتهي بانتهاء الإدراكات الحسية التي ترتبط بها.
وإذا كان البعض يزعم أن النفس كائن دائم الوجود، فإن هيوم يرد عليهم بأنه لا يوجد انطباع حسي واحد وثابت يدل على وجود النفس، فكل ما هنالك هو أننا أمام مجموعة من الحالات الإدراكية التي لا تتم في وقت واحد، كالفرح والحزن والألم واللذة وكل الإحساسات الأخرى، ولذلك لا يمكن لفكرة النفس أن تكون نتاجا لحالة إدراكية من هذه االإدراكات المتنوعة، وهذا ما يجعل فكرة النفس مجرد فكرة وهمية.
هكذا ينكر هيوم أن يكون في جوف الإنسان كائن واحد متصل اسمه “نفس”. فالإنسان ليس إلا « حزمة أو مجموعة من الإدراكات يعقب بعضها البعض في سرعة هائلة لا يتصورها خيال، وهي إدراكات لا تنفك في حركة وتدفق لا ينقطعان». وهذا التدفق غير المنقطع للإدراكات الحسية هو الذي يعطينا وهما بأن لنا نفس.
انطلاقا من هنا، فقد جسد دفيد هيوم كفيلسوف تجريبي نوعا من النزعة الشكية، وهو شك انصب حول قول العقلانيين والمثاليين بقدرة العقل على بلوغ المعرفة المطلقة التي تتجاوز نطاق عالم التجربة الحسية. وهذه الشكية الهيومية هي التي جعلت فيلسوفا كبيرا كإيمانويل كانط يستيقظ من سباته الدوغمائي، ويفكر في تأسيس مشروع نقدي يتوجه إلى العقل الفلسفي لكي يبين حدوده وإمكانياته في إنتاج المعرفة.
2-2: إيمانويل كانط:
إن السؤال الرئيسي في فلسفة كانط المعرفية هو: ماذا أستطيع أن أعرف ؟
وهو سؤال يفترض وجودا سابقا للمعرفة أو أن المعرفة ممكنة ويتساءل عن حدودها وشروطها. فالمعرفة عند كانط واقعة معطاة، موجودة ومتحققة في العلوم (في الرياضيات والفيزياء). ولذلك يصبح العمل الفلسفي الرئيسي عنده في مجال المعرفة هو « نقد العقل النظري»، أو بعبارة أخرى: تشريح المعرفة تشريحا منطقيا بقصد اكتشاف الأسس التي تقوم عليها وتعيين حدودها وطبيعتها. بهذا المعنى تبدو الصيغة الفعلية للسؤال هي: كيف تكون المعرفة ممكنة ؟
لقد سبق للعقليين أن أجابوا على هذا السؤال بأن المعرفة إنما تكون ممكنة بالعقل وحده، وأجاب التجريبيون بأنها لا تكون ممكنة أبدا إلا بالتجربة الحسية. أما كانط فإنه لا يوافق أيا من المذهبين على الوقوف عند جانب واحد هو جانب العقل أو الحس، بل هو يركب الجانبين معا، ويتجاوزهما بنظرية جديدة هي النظرية النقدية. فلا بد من الجمع بين التجربة والعقل؛ وذلك لأن التجربة تتميز بالواقعية، بينما تتميز أحكام العقل بالضرورة، والعلم الحق يجب أن يكون واقعيا وضروريا معا. ومن هنا ندرك أنه لا بد من الجمع بين الواقعية والضرورة، أي بين التجربة والعقل لتكوين المعرفة الحقة.
فالتجربة الحسية واقعية لا يجوز الشك فيها، وهي موضوع إدراك حدسي، فهي إذن مادة المعرفة. إلا أن هذه التجربة تبقى عمياء غامضة، لولا العقل الذي يتضمن الشروط أو المبادئ الضرورية التي تجعل من التجربة مادة معقولة، وتمثل تلك المبادئ صورة المعرفة وهي التي يسميها كانط مقولات CATEGORIES . إلا أن هذه المبادئ أو المقولات العقلية ليست ذات قيمة أو معنى من دون التجربة، إذ أنها ليست أفكارا بمعنى الكلمة أو معاني فطرية، إنما هي مجرد روابط لتوحيد التجربة المشتتة. وهكذا نرى كانط يجمع بين التجربة والعقل، ويجعل كلا منهما بدون معنى إلا عندما يتحدان معا. ومن ثم يقول كانط: « إن المقولات العقلية جوفاء بدون التجربة، كما أن هذه التجربة عمياء بدون تلك المقولات ».
لقد تبين لنا أن المعرفة عند كانط هي نتاج تضافر بين العقل والحس؛ فالحواس تنقل إلينا عن العالم الخارجي ما تستطيع أن تنقله من انطباعات، تتأطر في صورتي المكان والزمان القبليين، وتنتظم مع غيرها في مقولات العقل، وبذلك نحصل على معرفة بالموضوع، معرفة تتم من خلال ذواتنا. ولذلك لا تكون معرفة بالموضوع كما هو في ذاته وإنما بالموضوع كما يظهر لنا، أي كما رسمته حساسيتنا وصنعته مقولاتنا.
وعلى هذا الأساس يميز كانط بين مستويين في الموضوع: مستوى الظاهرةPHENOMENE وهو ما يمكننا أن نعرفه، ومستوى الشيء في ذاته NOUMENE وهو ما لا نعرفه وما لا سبيل لنا إلى معرفته أبدا. وبهذا المعنى، فإن معرفتنا نسبية وليست معرفة مطلقة.
عندما يرتبط العقل بالتجربة يسميه كانط فهما، ولكن العقل أحيانا يتجاوز حدود التجربة وشروطها، فيصبح « عقلا جدليا » يجوب فضاء الميتافيزيقا معتمدا على مقولاته فقط، طامعا في معرفة مطلقة بموضوعات لا يملك عنها أي معطيات حسية مثل: الله والروح وقدم العالم، فلا يحصل إلا على نقائض لا يمكن حلها.
إن الحدود التي يملك العقل « حق المواطنة داخلها » هي حدود التجربة الحسية، ولذلك يرفض كانط البحث الميتافيزيقي التقليدي ويعتبره متاهة لا تفضي إلى أية نتيجة.
غير أن السؤال الذي يفرض نفسه على الموقف الكانطي هنا هو: هل بوسع الإنسان أن يتجنب الميتافيزيقا فلا يفكر في الله والروح والمصير الأبدي ؟
إن الإنسان حيوان ميتافيزيقي كما يقول شوبنهاور. وكانط نفسه يعترف بأنه حتى لو أمكننا أن نتخلى عن التفكير في العلوم جميعا، فإنه يستحيل أن نتخلى عن التفكير الميتافيزيقي، لأن مشكلات الميتافيزيقا تنبع من صميم وعينا بوجودنا، وتلح علينا بطريقة لا نملك معها الإفلات من قبضة أسئلتها.
ولكن إذا كان الأمل مفقودا في الوصول إلى أجوبة عنها، فما سر هذا الشعور العجيب الذي يدفع العقل نحو الميتافيزيقا ؟
هنا يلجأ كانط مرة أخرى إلى إقامة الحدود، حدود بين ما نستطيع معرفته وبين ما نملك حق التفكير فيه فقط ؛ فبمقدورنا أن نفكر في الظواهر ونعرفها، أما الميتافيزيقا (الأشياء في ذاتها) فنملك حق التفكير فيها، ولكن شرط أن نعلم –مبدئيا- أننا لن نحصل بصددها على أية معرفة من نوع المعرفة العلمية.
إن كانط إذ يقفل باب الميتافيزيقا في وجه العقل النظري باسم المنطق والعلم، يعود ليفتح الباب في وجه العقل العملي باسم الأخلاق والإيمان. فيسلم بحرية الفعل الأخلاقي، وخلود النفس ووجود الله.
لقد عجز العقل من حيث هو فكر يطلب المعرفة عن إثبات هذه الأمور الأساسية الثلاثة فنصب بينه وبينها حدودا، ولكن العقل من حيث هو عمل وممارسة أخلاقية يجد أن منطقه لا يستقيم بدونها، فيسلم بوجودها. وهنا يتجاوز الإيمان حدود المعرفة، ولعل هذا ما تدل عليه عبارة كانط المشهورة: « لقد ضحيت بالعلم في سبيل الإيمان ».
هكذا لم يقدم كانط نفسه لنا كعدو للميتافيزيقا، بل ذكر أن هدفه الأسمى هو تخليص الميتافيزيقا من الميتافيزيقيين أنفسهم، ذلك أن الخطأ الكبير الذي ارتكبه هؤلاء بنظر كانط هو أنهم استخدموا عقولهم خارج نطاق حدود التجربة، وهو استخدام غير مشروع في نظر كانط. فلا يمكن في نظره أن نزعم مع الميتافيزيقيين أنه بإمكاننا إنتاج معرفة علمية بصدد مواضيع النفس والعالم والله، وهي المواضيع الميتافيزيقية الكبرى المعروفة.
إن كانط لا يزعم أن مواضيع الميتافيزيقا هذه غير موجودة، بل يرى فقط أن عقلنا لا يملك من الإمكانيات التي تؤهله لإدراك وجودها وماهيتها. فبإمكان العقل التفكير في الميتافيزيقا والاعتقاد فيها، لكن لا يمكنه معرفتها.
لقد رأى كانط أن الميتافيزيقيين أقاموا صروحا عقلية شامخة من أجل إدراك القمم العالية للوجود، ولكن للأسف استخدموا في ذلك موادا لا تكفي بنظر كانط إلا لإقامة مساكن بشرية متواضعة. انطلاقا من هنا فقد ظلت الحقيقة المطلقة الماورائية أرضا مجهولة لم تطأها مغامرات العقل البشري ولم يستطع الفكر البشري ارتياد قلعتها المستعصية عن الاقتحام.
وقد اعتبر كانط أن الميتافيزيقا ميلا طبيعيا صادرا عن طبيعة تكويننا البشري، ولذلك فهو لم يعتبر مواضيعها أوهاما يتعين القضاء عليها. فهو وإن أكد عجز الفكر البشري على إدراك موضوعات الميتافيزيقا والبرهنة على وجودها، فهو مع ذلك لم يقل أن بإمكان العقل البشري أن يبرهن على عدم وجودها.
وفي هذا السياق فقد رفض كانط قول ديكارت بوجود «ذات مطلقة» أو جوهر قائم بذاته هو «النفس» أو «الأنا»، لأن ماهية النفس تبقى بالنسبة لكانط مجهولة ما دمنا لا نملك حدسا حسيا يوفرلنا المادة الضرورية التي تمكن الفكر من إنتاج فكرة صحيحة ويقينية عن ماهية النفس. ولكننا مع ذلك نملك، كما يقرر كانط، شعورا بوجود النفس في الزمان من جهة وباعتبارها موضوعا لإحساس باطني من جهة أخرى. لكن هذا الإحساس لا يمكن العقل أبدا من معرفة الماهية الحقيقية للنفس.
أما عن مفهوم الله، فيرى كانط أنه لا يمكن أن نقول عنه أي شيء محدد، لأن أي حديث عن الله سيضطرنا إلى أن ننسب إليه أوصافا ونعوتا نستمدها من العالم المحسوس وما خبرناه في تجربتنا الظاهرة، فينتج عن ذلك نوع من عدم التناسب بين مفهوم الله كمفهوم عقلي خالص وبين تلك النعوت المحسوسة التي ننسبها إليه. إنني أتصور الله مستقلا تمام الاستقلال عن أية ظواهر محسوسة، ولذلك لا يحق لي أن أطلق عليه أية صفة منتزعة من صميم تجربتي كتجربة مشروطة بما هو محسوس. ولهذا يرى كانط أنه بإمكاننا أن نتصور أن هذا العالم من صنع عقل أسمى، لكننا مع ذلك لا يمكننا أن نقدم أية معرفة دقيقة وصحيحة عن طبيعة هذا العقل الأسمى كشيء في ذاته.
ويترتب عن ذلك أن تصورنا لله قائم على معرفتنا بطبيعة العالم وطريقة صنعه، وليس على معرفتنا بطبيعة العقل الإلهي. هكذا فنحن نستطيع أن نعرف العلاقة الموجودة بين كائن إلهي أسمى و بين العالم، على أساس أن للعالم صورة عقلية تدل على العلة الفاعلة الأولى التي هي المفسرة لهذا التناسق العقلي الذي يحكم العالم وأشيائه. لكن هذا النوع من التفسير لا يمكننا مع ذلك من تكوين أية معرفة علمية بطبيعة هذا العقل الإلهي الأسمى.
الواقع أن كانط أفسح المجال للاعتقاد بالميتافيزيقا لكي يمنح للأفعال الأخلاقية معنى وغاية معقولة. فللميتافيزيقا قيمة عملية أخلاقية باعتبارها ميلا طبيعيا من جهة، وباعتبارها الأساس الضروري الذي يمنح لأفعالنا غائيتها ومعقوليتها من جهة أخرى.
وإذا كان العقل النظري قد عجز عن البرهنة على موضوعات الميتافيزيقا، فإن هذا قد دفع كانط إلى أن يلجأ إلى العقل العملي من أجل إيجاد موطئ قدم للميتافيزيقا باعتبارها ميلا فطريا أو نزوعا طبيعيا لدى الكائن البشري من جهة أولى، وباعتبارها ضرورة عملية أخلاقية من جهة ثانية.